حاوره: أحمد الخطيب
يؤكد الشاعر د. محمد مقدادي بأن القصيدة هي سلاحه الذي يواجه به كل ما ينبري لإجهاض مشروع الحب والخير ووأد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية في هذا العالم المجنون، ويرى المولود في بيت إيدس العام 1952م، بأن التجريب في حقل التشكيل الفني الإبداعي محاولة لاستكمال نص الحياة وكونشيرتو المستقبل، ويؤمن بأن قيمة مجد الكائن تقاس بما تقطع قدماه من مسافات، وبقدر ما ترى عيناه من بلاد، وتمتلئ ذاكرته بالمفردات الإنسانية الفذّة. ويعتبر صاحب المجموعات الشعرية المتميزة" حقول الليلك، ذاكرة النهر، أحد..أحد، طواف الجهات، على وشك الحكمة، وغيرها" بأن الحالة الإبداعية هي التي أخذت بيده لانجاز كتابيه " العولمة رقاب كثيرة وسيف واحد، وأمريكيا هيكلة الموت"، وللوقوف على تجربته الشعرية والبحثية والتشكيلية، ورؤيته للواقع الإبداعي العربي، كان هذا الحوار:
س1: ما الذي تتوقعه من الشعر بعد تجربة حافلة أفضت إليك بكل تجلياتها، بدءا من هواجس الشعر الأولى، وحتى التحام نصك الإبداعي بما وراء الشعر؟
ج1: لم يعد الشعر يقدم متعة للجمهور وإحساساً باللذة والتخيّل والاسترخاء، بل أصبح ذلك الغريب الذي يحمل عصاه ومعوله في العالم كاشفاً خراباً هنا وخراباً هناك، ليفتح عيون الناس على فجيعة تتمدد من بين أيديهم ومن خلفهم، إنه الثورة على كل ما ينبني عليه الفساد ويقود إلى الهزائم والانكسارات، وأصبح الشعر أداة للفضح لا للتستر على بحار الدم والمقابر الجماعية وأشكال التعسف التي تطال الإنسان، مؤدية إلى توالد أنماط شتى من القهر السياسي والاجتماعي والتعمية الثقافية.القصيدة هي بيتي، أشكلها حجراً حجراً، وأهندسها كما أريد، أرفع أركانها عالياً في فضائي المفتوح، أفتح نوافذها، وأستقبل من خلالها شمس الغد، وأتنفس برئتيها هوائي الذي أريد، هي بيتي أؤثثه بأبسطة من الشوك أو الحرير، وأهيئه لاحتضان ضيوفي من صحب وجمهور يلتقط معي سنابلي فيكون الحصاد مكتملاً، لا أحسّ بغربتي إلا حين أكون خارج أسوار ( قصيدتي وبيتي) ولا تطيب لي إقامة إلا هناك على حافة زلازلها وبراكينها، وفي أحضان الشحيح من وردها وقرنفلها، أمد جسدي على زرابي الحصى والجمر ومن هناك استلهم ما يأخذني إلى آفاق وتخوم، فارتكب وزر الشعر وأشفي غليلي من الموت حين أراه ممعنا في اغتيال كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر التصاقاً بالحياة وانبهاراً بها، وهي التي أوجدها الله لنضيف إليها المعنى، ونقوم على إعمارها بكل ما يؤكد بهاءه وحكمته، لكنه العبث المروع بكل ما هو جوهري وعظيم، ومن هنا تجيء القصيدة، فهي ليست ما أتخندق به، أو ألوذ إليه خشية القادم، بل هي سلاحي الذي أواجه به كل ما ينبري لإجهاض مشروع الحب والخير ووأد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية في هذا العالم المجنون.
س2: إذن كيف تنظر إلى موقف الشاعر تجاه أدوات التهميش والتهشيم إذا كان الشاعر ليس محوراً للنص في حدّ ذاته؟
ج2: الشاعر ليس محوراً للنص كمحور في حد ذاته، بل هو بؤرة الضوء في جسد القصيدة، ومنها تنبعث الخيوط الكاشفة باتجاه الحقول التي يغمرها الظلم والظلام، ويكسوها غبار الرذيلة الرعناء، والأنثى _ كالوطن أيضاً_ عرضة للنهب والقهر والاحتلال، وكذلك الذكريات، والطفولة والحب وكل ما يقربنا إلى النفس التي هي جزء من ذات خالقها، إذن، ما الذي يفعله الشعر إزاء أدوات التهميش والتهشيم التي تطال مفاصل الحياة بكل تجلياتها؟، هناك خياران لا ثالث لهما، إما مواجهة الواقع بأدواته الكاسحة مع الإيمان بحتمية انتصار عناصر البناء على معاول الهدم والخراب، أي عدم الامتثال لمشيئة الواقع مهما كان الواقع باغياً وطاغياً ومسلحاً بما يجعله سيد هذه الجولة وإما، الخيار الثاني، الاستسلام لمقولة ليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذا الخيار هو الأسهل والأجدى لأنه لا ينطوي على خسائر مباشرة تقاس وفقاً للمعايير العامة. أما أنا فقد اجتزت مرحلة الاختيار، وحددت مكاني ومكانتي، ملأت كنانتي بما يليق، وقررت المواجهة كمشروع وليس كحالة طارئة لأن الذي نواجهه كمثقفين هو إستراتيجية تعد كامل عدتها لتقويض صروح الثقافة ودك حصونها واحدا تلو الآخر ، وأرى أن يكون الشاعر والمبدع شعرة في ذيل أرنب مقدام خيراً من أن يكون رأساً لأسد جبان، القضية في اختيار الشاعر لموقعه وموقفه، والتاريخ والناس هما الحكم في آخر الأمر.
س3: يقودنا هذا إلى أن نعتبر أن النص الشعري هو اتصال ذهني قبل كل شيء مع الوجود، وليس اتصالاً عاطفياً، مع العلم أن الوجه الآخر للذات هو وجه عاطفي، وليس ذهنيّاً؟
ج3: هذا مؤكد، فمع أن النص يبدأ بشحنة عاطفية تستجيب للمعطيات الراهنة لكنها وما أن تشرع القصيدة بالولادة حتى تتحول إلى حالة ذهنية من غير أن نتخلص من أحمال شحنتها الأولى، وهنا تكمن قدرة المبدع على المواءمة بين الحالتين، حيث أن ولادة القصيدة _ كأي ولادة_ لا تتأتى بشكل انشطاري أو عنقودي، فهي تستوجب الإخصاب أولا والتشكل التدريجي في رحم يحقق لها شروط الحياة إلى أن ينبلج نور القصيدة متوهجاً بكل ممكنات العمل الإبداعي الطليق والمستند إلى جملة من الحقائق الذهنية التي يتضمنها النص بالشكل الذي يروق لكاتبه.
س4: يشكل ديوانك "على وشك الحكمة"، نقطة تحوّل في العلاقة بين الذات والمحيط، وربما يكون للتحوّل السريع الذي طرأ على حراك العالم ومفرداته أثر كبير في إعادة بيت الذاكرة إذا جاز التعبير، كيف تقرأ الصياغة التي اتخذتها النصوص في هذا الديوان سبيلاً للوصول إلى الذات ؟
ج4: لقد أنجزت هذا الكتاب على عدة مراحل جلها كان في سنوات الاغتراب، اعتباراً من الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1995م وانتهاء بالتنقل والعيش في تونس وقطر حتى عام 2003م، والغريب أن هذه النصوص كانت تفاجؤني وتجيء على غير انتظار، فمرة اكتب بعضها في الطائرة والحافلة، واستوقفني بعضها وأنا أقود سيارتي أو اجلس على مقعد الدراسة، إنها نصوص مستفزة لأنها تعبر عن الحياة بكل تجلياتها وتفاصيلها وموقفي منها في سني العمر، حيث يكون المبدع في أقصى حالات شفافيته، ويطفو حزنه النبيل على سطح الذاكرة ملوحاً له بالقرطاس والقلم حيث عندئذ تندلق من الوجدان مختمرة ومزدانة بطقوس رحلة الاغتراب وابتهالاتها المخنوقة، فقد ارتأيت في هذا النمط من الكتابة صيغة أخرى مكنتني من مراجعة العلاقات القائمة مع الله والوطن والأصدقاء والأب، تعاملت معها وجعلتها تنسحب على مكونات الكتاب، حتى جاء بعضها صارماً ومسنناً حدّ الإيلام والترف، وبعضها الآخر انساب شفافاً كالدمع ورقراقاً كماء الينابيع خاصة في الجزء الأخير الذي اشتمل على بعد صوفي كان لسقوط بغداد عام 2003م اثر كبير في صياغته.
س5: ما الذي أصاب الشعر، ما الذي أفرع القصيدة من فضائها الحقيقي، ما هذه الانتكاسة لديوان العرب، من المسؤول عن هذا التردّي، وكيف تنظر إلى المرض الذي أصاب الشعر في الأردن بعد نهاية القرن الماضي؟
ج5: ليس الشعر في الأردن وحده ما أصيب بهذه الانتكاسة، بل في كل أنحاء الوطن العربي، وهو أمر طبيعي لسببين: أولهما حالة الاستتباع التي تنتاب الأمة والتقليد الأعمى لمن غلبوا على أمرهم، مما أدى إلى تعميم الرداءة وتهميش الجوهري وتسطح الرؤى، والسبب الثاني يتمثل في الخلل الوظيفي الذي أصاب أدوات النقد والتصويب، إذ اعتزل النقد مهامه وتنحى عن وظائفه فبات إما مهللاً ومطبلاً لأشخاص معيين بصرف النظر عن مستوى إبداعاتهم، وإما صامتاً عن قول الحق فيما يخص النماذج التي تتصدى منابرنا الإعلامية لعرضها ضمن حقن الهشاشة والتلفيق التي يجري حقن الدم العربي والذوق العربي، لتشويه كل ما يحمل رسالة أسمى واقدر على مجابهة خديعة ما يسمى بالحداثة التي أوغل بها من لا يمتلك شيئاً من أصول وقواعد اللغة، وفي غياب المعايير النقدية الملزمة، واستنكاف النقاد عن الاضطلاع بمهام التنقية والتفتيش والتوجيه ومصادرة البضاعة الفاسدة، امتلأت الصحافة والإذاعة والتلفاز بنماذج منفرة للجمهور الذي انفض عن محافل الشعر، وتراجع عن مجالسة أهله، نحن إذاً أمام ظروف موضوعية تتمثل في انكسار مشروع الأمة الحضاري، وظروف ذاتية تتمثل في غياب مسؤولية المبدع إزاء نصه، ومسؤولية الناقد حيال ما تزدحم به أرفف المكتبات من أعمال لا تستند لمرجعية إبداعية، وبالتالي ليست أمينة على مستقبل الأمة، لأنها عاجزة عن الأخذ بناصية الحاضر المؤسس لذلك المستقبل المأمول.
س6: يحيلنا هذا إلى سؤال عن علاقة النص الشعري بالنقد، وإشكالية هذه العلاقة، وما الذي ينتظره نصك الشعري من النقد، خاصة إذا ما عرفنا أن نصك الإبداعي هو نص جماهيري بامتياز، هل ينتظر سوق الكلاشيهات الجاهزة، أم تحميلها عبء البحث عن إيقاع ذوقي جديد يتصل بالحبل السري للنص؟
ج6: النقد في بلادنا يأخذ شكلين: فهو إما نقداً انطباعياً يتناوله غير المتخصصين بالنقد الأدبي، ولا يمتلكون الأدوات التي تؤهلهم للغوص في أعماق النص والوقوف على دلالات مفرداته، ويكتفون بتناوله من الخارج مدللين على وعيهم بسطوح النص وقراءته وفقاً لآثاره النفسية وما يتركه من بصمات جمالية، أو غير جمالية _ أحياناً_ وبالتالي فإن هذا النمط النقدي غير مكتمل، ولا يضيف جديداً ولا يكشف عن خفايا النص ومكنوناته إلا بمقدار ما ينطبع في الذهن من أثر برّاني لدى المتلقي، أما الشكل الآخر من النقد فهو ذلك الذي يؤسس لقراءة النصوص قراءة تشريحية جوانية مستشرفة من خلايا النص ما ينبئ به تلميحاً أو تصريحاً، وهو ليس بالنقد الأكاديمي الجاف والمتعالي على النص، بل هو نقد ممتلك للأدوات النقدية الأكاديمية، ولكن في ذات الوقت قادر على إقامة مشروع إبداعي مواز للنص، والناقد المتمتع بهذه الخصائص هو من يقدم نصاً إبداعياً على النص الأول الذي يتلقى من روح الناقد ما يبثّ الحياة فيه، وما يقود إلى إثرائه وإعادة تشكيله في ذهن القارئ، بما يبلّغ رسالة النص ومحموله الإبداعي والفكري، أما فيما يتعلق بما قدمت شخصياً من نصوص عبر مسيرة العمر، فإنني أعتقد بأنها لم تحظ غلا بالقليل من الدراسات النقدية غير الانطباعية على مستوى الساحة الأردنية، مع أنني _ ومثلي كثير من أصحاب الأقلام_ حظيت بدراسات أكثر جدية وعمقاً في غير قطر عربي، وأود أن أسجل بصوت عال هنا عتباً على الجامعات الأردنية التي يتناول الدارسون فيه" أساتذة وطلبة" أعمالا عربية وأجنبية كثيرة في الوقت الذي لا تحتل النصوص المحلية إلا مساحة ضيقة لديهم، وتتراوح دراساتهم بين انتصار للشلّة، وتكريس لأسماء بعينها، اعتادت وسائل الإعلام وفي مقدمتها الصحافة على تقديمها في كل عرس ومناسبة، وهو أمر أضرّ كثيراً بالمساهمة الإبداعية الأردنية في مسيرة الإبداع العربي، وألقى بالكثير من الظلال والعتمة على منجزنا الذي يحق لنا أن نفخر بالكثير منه من غير انحياز للجغرافيا التي لا نقر بها على المستوى الفكري والثقافي، بل نعتبر ما ينجز هنا جزءاً مما يرفد الثقافة القومية والإنسانية الشاملة.
س7: في قصائدك الأخيرة ثمة نزوع للكتابة على البحور الكلاسيكية للشعر العربي، ونرى كثيراً من الشعراء يتجهون لهذا النمط من الكتابة، هل هي عودة لإحياء التراث الشعري، أم هي صحوة باتجاه الاقتراب من عامة الشعب، أم التأكيد على شاعرية الشاعر؟
ج7: الشعر العربي حالة تجمع بين ما هو تاريخي وما هو إبداعي في نفس الوقت، وكل حالة مماثلة هي عرضة للتحديث والتطوير والإضافة، ولأن الذي يبحر في أصقاع الشعر وعوالمه لا بد أن يبدأ من هناك.. من رأس النبع، قبل أن يذهب إلى المصبات، فقد نهلت من ينابيع الشعر وشكلت منها مقفز البدايات للتشكل والانطلاق إلى سفوح الشعر الرحبة والتحليق عالياً في فضائه اللامحدود، ولأن الإبداع حالة دينامية غير خاضعة للقيود كاللعبة السياسية مثلاً، فإن بقاءه في قوالبه يحيله إلى مستنقع راكدة مياهه ولا يعيش فيها غير كائنات رخوة غير قادرة على الانتصاب في وجه عواصف التغيير _ إيجاباً أو سلباً_ ومن هنا أرى بأن على الشاعر أن يمتلك الزمام، وان يقدم الشعر في قالبه الذي يخدم قضيته ويؤكد حقيقة معناه، ويرسل رصاصته في الاتجاه الذي يريد من غير قرار مسبق بالشكل الذي ستكون عليه القصيدة، فأنا أكتب القصيدة التي تختار شكلها وطراز ثوبها، وترتدي ما تشاء من الحلي والأقراط، لكنها لا تخرج عن سياق اللعبة التي لا أكون فيها متفرّجاً على الحدث بقدر ما أكون واحداً من صانعيه وموجّهي دفته، ليكون الأقرب لي، وعندئذ يكون الأقرب كذلك لعامة الشعب الذي لم يتحلل بعد ولا يجوز له أن يفعل _ من التراث الذي يرى فيه البعض قيداً على الإبداع، وأرى فيه قارب نجاة الأمة إن هي أحسنت التعامل معه وانتقاء العظيم منه والبناء عليه والإبحار به صوب مجاهل الدنيا التي تزداد " في ظل المتغيرات الدولية" إبهاماً وشمولية وتنأى بالأمم_ ومنها أمتنا_ عن خصوصياتها الثقافية والحضارية وهو ما يجب أن نتصدى له بما نمتلك وبما ينبغي لنا أن نمتلك من أدوات إبداعية للنهوض بمشروع حضاري متكامل.
س8: الأمكنة التي تزورها تحضر بقوة في نصوصك الشعرية، ما الذي يفعله المكان بالشعر، ولا يفعله الإنسان؟
ج8: هذه النصوص أولاً من قدسية الجغرافيا وقدرة المكان على التأثير النفسي حينما أتعلق به وأنخرط في تفاصيله ومكوناته الطبيعية المادية والبشرية، أتعامل مع المكان كأنثى آخذها بين ذراعي واحتضنها وأرشفها وأغسلها من غبارها وأتطهر بها من خطيئتي..أخوض بها بحاراً من الدفء والعشق والمتعة والانبهار، وتخوض بي في معالمها ونتوءاتها، وأمرّغ رأسي بأعشاب حقولها وقمح بيادرها، واسترخي بعد رحلة من الضنك على سفوحها المتواطئة مع الأفول الذي تقتضيه دورة العمر الذي يشكل المكان محورها، كل مكان..مثل كل أنثى ..يحمل مفاجآته الخاصة، وعبقه الخاص، وسنديانه العتيق، وله رعاة يقدمون الغناء بلغات شتى وعلى أنغام نايات مجرّحة، لكنها جميعاً تقود الخراف إلى مائها وكلئها وتدخلها في بهجة الصباحات المشرقة، لقد تعاملت مع المكان وكأنه كائن حي، وكل مكان زرته وتعرفت إلى ساكنيه وزواره والغرباء فيه منحني الكثير من المعرفة وجعل من حياتي متحفاً يمور بمقتنياته النادرة، فأثثت بها مملكة تضج بالأحلام، وتولد كل يوم لدي رغبة في البقاء على متن شراعي متوسّلاً الموج والريح أن يأخذاني إلى عالم يدق وتداً جديداً في أركان خيمة المعرفة التي مثل غمامة تظلل حاجبيّ حينما تقسو الحياة وتزدحم شؤونها وصروفها على غير انتظار،لقد نبع إيماني بالمكان من اعتقادي بأن قيمة مجد الكائن تقاس بما تقطع قدماه من مسافات، وبقدر ما ترى عيناه من بلاد، وتمتلئ ذاكرته بالمفردات الإنسانية الفذّة.
س9: ولكن المكان يحتاج إلى ذاكرة سينمائية وأداة تشكيلية؟
ج9: نعم.. هنا تتبدّى أهمية الذاكرة البصرية في محمولها التصويري وقدرتها على تحمل أعباء تحويل الصورة الجامدة إلى حقيقة إبداعية تسعى بين يدي الناس، إن الشاعر في تعامله مع المكان ليس تعاملاً فوتوغرافياً، بل هو إعادة إسالة الدم في شرايين المكان وأوردته، بما يجعل منه كائناً حيّاً تتم مخاطبته ودعوته معك إلى مائدة العشاء وفتح جوار مع " أعضائه " التي تنوء بما حملته من غبار الأزمنة، هنا تكمن المعرفة في إنطاق المكان ليبوح بما استعصى على الفهم العابر، فيكون بذلك شاهداً على من زوّر التاريخ أو صادر جزءاً منه، وتلك هي عبقرية المكان الذي تجد فيه الكائنات ذاكرتها، ونجد فيه نحن المبدعون دهشة نقرؤها ونعيد صياغتها على الشكل الذي يفي بحق المكان، ويبقيه وفيّاً لرسالته وثوابته ومعانيه.
س10: مؤخراً فاجأ الشاعر مقدادي الساحة الثقافية والفنية والأدبية في الأردن بالاشتراك بمعرض فن تشكيلي مشترك مع الشاعرين والتشكيليين حسين نشوان وعبد الله منصور، ما الذي أردت قوله في هذا المعرض، ومن خلال رؤيتي للوحاتك وجدت أنك لا تشكّل ولا ترسم، إنما تكتب نصاً تشكيلياً يعتمد على المتخيل اللوني؟
ج10: محاولة الرسم عندي بدأت مبكرة منذ أول قلم رصاص وضعته بين السبابة والوسطى_ هكذا كنت أمسك قلمي_ وهي بدايات مبكرة على بدايات الشعر والكتابة، اللذين تقدما على الرسم الذي انتحى جانباً معتماً في كهوف النفس إلى أن سافرت إلى أمريكيا لغايات استكمال الدراسات العليا، وأقمت في ولاية " نيومكسيكو" وفي جامعتها حيث تقام معارض الفن التشكيلي أتيحت لي فرصة لقاء فنان من الهنود الحمر الذين يقيمون على مقربة من العاصمة، وقد دعاني " فريدريكو" عدة مرات على بيته الرث، وعلمني تقنية جديدة تقوم عليها مدرسة في الرسم هناك، وهي تستند إلى مزج لوني يتحكم الفنان باتجاهاته ومستويات امتزاجه وتدرج ألوانه وتعدد الملامح الشكلية وتداخلها بما يخدم الفكرة التي قد لا تتشكل إلا في خضم التجربة اللونية الآنية، فهو رسم غير محدد في البداية، ويعتمد على إبداعية الفنان وقدرته على خلق المضمون أثناء تشكل اللوحة، بما يضمن انقيادها وراء الانسيابات اللونية، المهم أنني تعلمت هذه التقنية التي تمتاز بفرادتها وفرديتها، كذلك وقدمت بعض أعمالي للمرة الأولى في المعرض المشترك مع زميليّ الشاعرين، ولأنني اضطررت للسفر فلم أتمكن من متابعة هذا المعرض وما كتب عنه_ إن كان هناك ثمة من كتب_ لكنني استمعت منك الآن عن رأيك في تلك اللوحات التي اعتبرتها نصاً تشكيلياً يعتمد على المتخيّل اللوني، وأتمنى أن تكون كذلك، لأنها حينئذ تكون قد أفصحت عمّا أريد، وهو ما يدفعني إلى مواصلة التجريب في هذا الحقل الإبداعي الذي أرى فيه محاولة لاستكمال نص الحياة وكونشيرتو المستقبل.
س11: سؤالي الأخير سيكون خارج النص، أنت باحث مميز في شؤون العولمة، ولك رأي تنويري في هذا المجال، وأصدرت كتابين في هذا الاتجاه: " العولمة رقاب كثيرة وسيف واحد، وأمريكيا وهيكلة الموت" كيف تنظر للعولمة من الجانب الثقافي؟
ج11: سؤالك ليس خارج النص، بل يقع في صلب الحقيقة الإبداعية، ذلك أنني متخصص_ أكاديمياً_ في الاقتصادات الدولية، لكن الحالة الإبداعية هي التي أخذت بيدي لانجاز ذينك الكتابين، إذ كان الباعث الفعلي وراء الكتاب الأول هو الإحساس بمسؤوليتي ككاتب أولاً إزاء ما يجري في هذا العالم من تعديات على إنسانيته وكرامة شعوبه وحرية أوطانه، ورأيت فيما رأيت أن العولمة المتوحشة، تستخدم أدواتها الفاعلة من تقنيات ووسائل اتصالات ورؤوس أموال ومؤسسات عالمية وقدرات عسكرية في امتهان الشعوب واستعبادها وإعادة العالم إلى مربعات الصراع الأول، بدلاً من الاستخدام الرشيد والإنساني للمنجزات العلمية في عالم بات مفتوحاً على كامل تفاصيله الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقد اعتقد البعض، ممن غرّر بهم الإعلام الذي ينساب في فضاء كوني مفتوح، أن العولمة بشعاراتها الآخذة بالألباب حول حقوق الإنسان والديمقراطية وردم الفجوة الاقتصادية بين الشمال المتخم بقدراته وابتكاراته وجنوب مكتظ بما يستحكم فيه من جهل وفقر وقهر وتعسف، وهي شعارات_ كما ذكرت_ أغرت في البدء شعوب العالم الثالث وبعضاً من مفكريه وساد اعتقاد بأن العالم الأول الذي تسكن " الشعوب المختارة" قد تخلى عن فكره الاستعلائي الاستعماري الذي عهدته شعوبنا في القرون السابقة، وبأنه بات يتجه نحو مشاركة الشعوب البائسة في حلّ معضلة تخلّفها، لكن سحابة التضليل الإعلامي انقشعت وأطل علينا المستعمرون بكامل صلفهم وغرورهم وبطشهم، فاحتلت أفغانستان والعراق، وهددت القوى الممانعة للمشروع الاستعماري بحلته الجديدة وأدواته المدمرة للقيم والمفاهيم والمتجاوزة للخصوصية الثقافية للأمة ولمنجزها الحضاري والإنساني حين دفع مفكرو الغرب بالصراع الحضاري إلى الواجهة وآمنوا بحتمية انتصار النموذج الليبرالي الغربي " اقتصادياً ومعرفياً" على غيره وخصّوا بالذكر هنا النموذج الاشتراكي بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، والنموذج العربي الإسلامي باعتباره نموذجاً قهرياًَ واستبدادياً ومعادياً لكل حركة تقدمية أو فعل مستقبلي، هذا أجّج الصراع وجعل الثقافة ميداناً له بصرف النظر عن محاولات التعتيم والتعمية التي تبتكرها وسائل الإعلام على الجبهتين، جبهة الأمة المجزأة، وجبهة أعداء الأمة المدججين بكل ما قدمته التكنولوجيا لهم من أدوات اعتقدوا بأنها ستحسم معركة الصراع القائم منذ خمسة قرون على الأقل، ولم تنهزم الأمة وإن تراخت الأيدي عن الزناد، وركنت العقول إلى زوايا الجهل والتخلف وأصبح كل حزب فرح بما لديه، لكن الضمير العربي والإنساني لم يقف مستسلماً إزاء ما لحق بمكانة الأمة من مهانة وانكسار،كان الأساس فيها تغييب الشعوب عن حقيقتها التاريخية والسياسية وعدم تمكينها من المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية وحتى اليومية التي تمس حياتها ومستقبل أجيالها، مما أدى إلى انكسار مشروع النهضة والتنوير وتراجع فعل العقل وتعطلت عوامل الاستشعار لتقديم رؤية الأمة الواحدة في صراعها مع الآخر الذي لا يدع فرصة لتعميق التجزئة والتفتت وترسيخ قيم التنائي إلا واستثمرها مستفيداً من هذا الترهل الذي أصاب جسد الأمة، والعشى الذي ألم ببصرها وبصيرتها.
يؤكد الشاعر د. محمد مقدادي بأن القصيدة هي سلاحه الذي يواجه به كل ما ينبري لإجهاض مشروع الحب والخير ووأد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية في هذا العالم المجنون، ويرى المولود في بيت إيدس العام 1952م، بأن التجريب في حقل التشكيل الفني الإبداعي محاولة لاستكمال نص الحياة وكونشيرتو المستقبل، ويؤمن بأن قيمة مجد الكائن تقاس بما تقطع قدماه من مسافات، وبقدر ما ترى عيناه من بلاد، وتمتلئ ذاكرته بالمفردات الإنسانية الفذّة. ويعتبر صاحب المجموعات الشعرية المتميزة" حقول الليلك، ذاكرة النهر، أحد..أحد، طواف الجهات، على وشك الحكمة، وغيرها" بأن الحالة الإبداعية هي التي أخذت بيده لانجاز كتابيه " العولمة رقاب كثيرة وسيف واحد، وأمريكيا هيكلة الموت"، وللوقوف على تجربته الشعرية والبحثية والتشكيلية، ورؤيته للواقع الإبداعي العربي، كان هذا الحوار:
س1: ما الذي تتوقعه من الشعر بعد تجربة حافلة أفضت إليك بكل تجلياتها، بدءا من هواجس الشعر الأولى، وحتى التحام نصك الإبداعي بما وراء الشعر؟
ج1: لم يعد الشعر يقدم متعة للجمهور وإحساساً باللذة والتخيّل والاسترخاء، بل أصبح ذلك الغريب الذي يحمل عصاه ومعوله في العالم كاشفاً خراباً هنا وخراباً هناك، ليفتح عيون الناس على فجيعة تتمدد من بين أيديهم ومن خلفهم، إنه الثورة على كل ما ينبني عليه الفساد ويقود إلى الهزائم والانكسارات، وأصبح الشعر أداة للفضح لا للتستر على بحار الدم والمقابر الجماعية وأشكال التعسف التي تطال الإنسان، مؤدية إلى توالد أنماط شتى من القهر السياسي والاجتماعي والتعمية الثقافية.القصيدة هي بيتي، أشكلها حجراً حجراً، وأهندسها كما أريد، أرفع أركانها عالياً في فضائي المفتوح، أفتح نوافذها، وأستقبل من خلالها شمس الغد، وأتنفس برئتيها هوائي الذي أريد، هي بيتي أؤثثه بأبسطة من الشوك أو الحرير، وأهيئه لاحتضان ضيوفي من صحب وجمهور يلتقط معي سنابلي فيكون الحصاد مكتملاً، لا أحسّ بغربتي إلا حين أكون خارج أسوار ( قصيدتي وبيتي) ولا تطيب لي إقامة إلا هناك على حافة زلازلها وبراكينها، وفي أحضان الشحيح من وردها وقرنفلها، أمد جسدي على زرابي الحصى والجمر ومن هناك استلهم ما يأخذني إلى آفاق وتخوم، فارتكب وزر الشعر وأشفي غليلي من الموت حين أراه ممعنا في اغتيال كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر التصاقاً بالحياة وانبهاراً بها، وهي التي أوجدها الله لنضيف إليها المعنى، ونقوم على إعمارها بكل ما يؤكد بهاءه وحكمته، لكنه العبث المروع بكل ما هو جوهري وعظيم، ومن هنا تجيء القصيدة، فهي ليست ما أتخندق به، أو ألوذ إليه خشية القادم، بل هي سلاحي الذي أواجه به كل ما ينبري لإجهاض مشروع الحب والخير ووأد قيم الجمال والحرية والكرامة الإنسانية في هذا العالم المجنون.
س2: إذن كيف تنظر إلى موقف الشاعر تجاه أدوات التهميش والتهشيم إذا كان الشاعر ليس محوراً للنص في حدّ ذاته؟
ج2: الشاعر ليس محوراً للنص كمحور في حد ذاته، بل هو بؤرة الضوء في جسد القصيدة، ومنها تنبعث الخيوط الكاشفة باتجاه الحقول التي يغمرها الظلم والظلام، ويكسوها غبار الرذيلة الرعناء، والأنثى _ كالوطن أيضاً_ عرضة للنهب والقهر والاحتلال، وكذلك الذكريات، والطفولة والحب وكل ما يقربنا إلى النفس التي هي جزء من ذات خالقها، إذن، ما الذي يفعله الشعر إزاء أدوات التهميش والتهشيم التي تطال مفاصل الحياة بكل تجلياتها؟، هناك خياران لا ثالث لهما، إما مواجهة الواقع بأدواته الكاسحة مع الإيمان بحتمية انتصار عناصر البناء على معاول الهدم والخراب، أي عدم الامتثال لمشيئة الواقع مهما كان الواقع باغياً وطاغياً ومسلحاً بما يجعله سيد هذه الجولة وإما، الخيار الثاني، الاستسلام لمقولة ليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذا الخيار هو الأسهل والأجدى لأنه لا ينطوي على خسائر مباشرة تقاس وفقاً للمعايير العامة. أما أنا فقد اجتزت مرحلة الاختيار، وحددت مكاني ومكانتي، ملأت كنانتي بما يليق، وقررت المواجهة كمشروع وليس كحالة طارئة لأن الذي نواجهه كمثقفين هو إستراتيجية تعد كامل عدتها لتقويض صروح الثقافة ودك حصونها واحدا تلو الآخر ، وأرى أن يكون الشاعر والمبدع شعرة في ذيل أرنب مقدام خيراً من أن يكون رأساً لأسد جبان، القضية في اختيار الشاعر لموقعه وموقفه، والتاريخ والناس هما الحكم في آخر الأمر.
س3: يقودنا هذا إلى أن نعتبر أن النص الشعري هو اتصال ذهني قبل كل شيء مع الوجود، وليس اتصالاً عاطفياً، مع العلم أن الوجه الآخر للذات هو وجه عاطفي، وليس ذهنيّاً؟
ج3: هذا مؤكد، فمع أن النص يبدأ بشحنة عاطفية تستجيب للمعطيات الراهنة لكنها وما أن تشرع القصيدة بالولادة حتى تتحول إلى حالة ذهنية من غير أن نتخلص من أحمال شحنتها الأولى، وهنا تكمن قدرة المبدع على المواءمة بين الحالتين، حيث أن ولادة القصيدة _ كأي ولادة_ لا تتأتى بشكل انشطاري أو عنقودي، فهي تستوجب الإخصاب أولا والتشكل التدريجي في رحم يحقق لها شروط الحياة إلى أن ينبلج نور القصيدة متوهجاً بكل ممكنات العمل الإبداعي الطليق والمستند إلى جملة من الحقائق الذهنية التي يتضمنها النص بالشكل الذي يروق لكاتبه.
س4: يشكل ديوانك "على وشك الحكمة"، نقطة تحوّل في العلاقة بين الذات والمحيط، وربما يكون للتحوّل السريع الذي طرأ على حراك العالم ومفرداته أثر كبير في إعادة بيت الذاكرة إذا جاز التعبير، كيف تقرأ الصياغة التي اتخذتها النصوص في هذا الديوان سبيلاً للوصول إلى الذات ؟
ج4: لقد أنجزت هذا الكتاب على عدة مراحل جلها كان في سنوات الاغتراب، اعتباراً من الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1995م وانتهاء بالتنقل والعيش في تونس وقطر حتى عام 2003م، والغريب أن هذه النصوص كانت تفاجؤني وتجيء على غير انتظار، فمرة اكتب بعضها في الطائرة والحافلة، واستوقفني بعضها وأنا أقود سيارتي أو اجلس على مقعد الدراسة، إنها نصوص مستفزة لأنها تعبر عن الحياة بكل تجلياتها وتفاصيلها وموقفي منها في سني العمر، حيث يكون المبدع في أقصى حالات شفافيته، ويطفو حزنه النبيل على سطح الذاكرة ملوحاً له بالقرطاس والقلم حيث عندئذ تندلق من الوجدان مختمرة ومزدانة بطقوس رحلة الاغتراب وابتهالاتها المخنوقة، فقد ارتأيت في هذا النمط من الكتابة صيغة أخرى مكنتني من مراجعة العلاقات القائمة مع الله والوطن والأصدقاء والأب، تعاملت معها وجعلتها تنسحب على مكونات الكتاب، حتى جاء بعضها صارماً ومسنناً حدّ الإيلام والترف، وبعضها الآخر انساب شفافاً كالدمع ورقراقاً كماء الينابيع خاصة في الجزء الأخير الذي اشتمل على بعد صوفي كان لسقوط بغداد عام 2003م اثر كبير في صياغته.
س5: ما الذي أصاب الشعر، ما الذي أفرع القصيدة من فضائها الحقيقي، ما هذه الانتكاسة لديوان العرب، من المسؤول عن هذا التردّي، وكيف تنظر إلى المرض الذي أصاب الشعر في الأردن بعد نهاية القرن الماضي؟
ج5: ليس الشعر في الأردن وحده ما أصيب بهذه الانتكاسة، بل في كل أنحاء الوطن العربي، وهو أمر طبيعي لسببين: أولهما حالة الاستتباع التي تنتاب الأمة والتقليد الأعمى لمن غلبوا على أمرهم، مما أدى إلى تعميم الرداءة وتهميش الجوهري وتسطح الرؤى، والسبب الثاني يتمثل في الخلل الوظيفي الذي أصاب أدوات النقد والتصويب، إذ اعتزل النقد مهامه وتنحى عن وظائفه فبات إما مهللاً ومطبلاً لأشخاص معيين بصرف النظر عن مستوى إبداعاتهم، وإما صامتاً عن قول الحق فيما يخص النماذج التي تتصدى منابرنا الإعلامية لعرضها ضمن حقن الهشاشة والتلفيق التي يجري حقن الدم العربي والذوق العربي، لتشويه كل ما يحمل رسالة أسمى واقدر على مجابهة خديعة ما يسمى بالحداثة التي أوغل بها من لا يمتلك شيئاً من أصول وقواعد اللغة، وفي غياب المعايير النقدية الملزمة، واستنكاف النقاد عن الاضطلاع بمهام التنقية والتفتيش والتوجيه ومصادرة البضاعة الفاسدة، امتلأت الصحافة والإذاعة والتلفاز بنماذج منفرة للجمهور الذي انفض عن محافل الشعر، وتراجع عن مجالسة أهله، نحن إذاً أمام ظروف موضوعية تتمثل في انكسار مشروع الأمة الحضاري، وظروف ذاتية تتمثل في غياب مسؤولية المبدع إزاء نصه، ومسؤولية الناقد حيال ما تزدحم به أرفف المكتبات من أعمال لا تستند لمرجعية إبداعية، وبالتالي ليست أمينة على مستقبل الأمة، لأنها عاجزة عن الأخذ بناصية الحاضر المؤسس لذلك المستقبل المأمول.
س6: يحيلنا هذا إلى سؤال عن علاقة النص الشعري بالنقد، وإشكالية هذه العلاقة، وما الذي ينتظره نصك الشعري من النقد، خاصة إذا ما عرفنا أن نصك الإبداعي هو نص جماهيري بامتياز، هل ينتظر سوق الكلاشيهات الجاهزة، أم تحميلها عبء البحث عن إيقاع ذوقي جديد يتصل بالحبل السري للنص؟
ج6: النقد في بلادنا يأخذ شكلين: فهو إما نقداً انطباعياً يتناوله غير المتخصصين بالنقد الأدبي، ولا يمتلكون الأدوات التي تؤهلهم للغوص في أعماق النص والوقوف على دلالات مفرداته، ويكتفون بتناوله من الخارج مدللين على وعيهم بسطوح النص وقراءته وفقاً لآثاره النفسية وما يتركه من بصمات جمالية، أو غير جمالية _ أحياناً_ وبالتالي فإن هذا النمط النقدي غير مكتمل، ولا يضيف جديداً ولا يكشف عن خفايا النص ومكنوناته إلا بمقدار ما ينطبع في الذهن من أثر برّاني لدى المتلقي، أما الشكل الآخر من النقد فهو ذلك الذي يؤسس لقراءة النصوص قراءة تشريحية جوانية مستشرفة من خلايا النص ما ينبئ به تلميحاً أو تصريحاً، وهو ليس بالنقد الأكاديمي الجاف والمتعالي على النص، بل هو نقد ممتلك للأدوات النقدية الأكاديمية، ولكن في ذات الوقت قادر على إقامة مشروع إبداعي مواز للنص، والناقد المتمتع بهذه الخصائص هو من يقدم نصاً إبداعياً على النص الأول الذي يتلقى من روح الناقد ما يبثّ الحياة فيه، وما يقود إلى إثرائه وإعادة تشكيله في ذهن القارئ، بما يبلّغ رسالة النص ومحموله الإبداعي والفكري، أما فيما يتعلق بما قدمت شخصياً من نصوص عبر مسيرة العمر، فإنني أعتقد بأنها لم تحظ غلا بالقليل من الدراسات النقدية غير الانطباعية على مستوى الساحة الأردنية، مع أنني _ ومثلي كثير من أصحاب الأقلام_ حظيت بدراسات أكثر جدية وعمقاً في غير قطر عربي، وأود أن أسجل بصوت عال هنا عتباً على الجامعات الأردنية التي يتناول الدارسون فيه" أساتذة وطلبة" أعمالا عربية وأجنبية كثيرة في الوقت الذي لا تحتل النصوص المحلية إلا مساحة ضيقة لديهم، وتتراوح دراساتهم بين انتصار للشلّة، وتكريس لأسماء بعينها، اعتادت وسائل الإعلام وفي مقدمتها الصحافة على تقديمها في كل عرس ومناسبة، وهو أمر أضرّ كثيراً بالمساهمة الإبداعية الأردنية في مسيرة الإبداع العربي، وألقى بالكثير من الظلال والعتمة على منجزنا الذي يحق لنا أن نفخر بالكثير منه من غير انحياز للجغرافيا التي لا نقر بها على المستوى الفكري والثقافي، بل نعتبر ما ينجز هنا جزءاً مما يرفد الثقافة القومية والإنسانية الشاملة.
س7: في قصائدك الأخيرة ثمة نزوع للكتابة على البحور الكلاسيكية للشعر العربي، ونرى كثيراً من الشعراء يتجهون لهذا النمط من الكتابة، هل هي عودة لإحياء التراث الشعري، أم هي صحوة باتجاه الاقتراب من عامة الشعب، أم التأكيد على شاعرية الشاعر؟
ج7: الشعر العربي حالة تجمع بين ما هو تاريخي وما هو إبداعي في نفس الوقت، وكل حالة مماثلة هي عرضة للتحديث والتطوير والإضافة، ولأن الذي يبحر في أصقاع الشعر وعوالمه لا بد أن يبدأ من هناك.. من رأس النبع، قبل أن يذهب إلى المصبات، فقد نهلت من ينابيع الشعر وشكلت منها مقفز البدايات للتشكل والانطلاق إلى سفوح الشعر الرحبة والتحليق عالياً في فضائه اللامحدود، ولأن الإبداع حالة دينامية غير خاضعة للقيود كاللعبة السياسية مثلاً، فإن بقاءه في قوالبه يحيله إلى مستنقع راكدة مياهه ولا يعيش فيها غير كائنات رخوة غير قادرة على الانتصاب في وجه عواصف التغيير _ إيجاباً أو سلباً_ ومن هنا أرى بأن على الشاعر أن يمتلك الزمام، وان يقدم الشعر في قالبه الذي يخدم قضيته ويؤكد حقيقة معناه، ويرسل رصاصته في الاتجاه الذي يريد من غير قرار مسبق بالشكل الذي ستكون عليه القصيدة، فأنا أكتب القصيدة التي تختار شكلها وطراز ثوبها، وترتدي ما تشاء من الحلي والأقراط، لكنها لا تخرج عن سياق اللعبة التي لا أكون فيها متفرّجاً على الحدث بقدر ما أكون واحداً من صانعيه وموجّهي دفته، ليكون الأقرب لي، وعندئذ يكون الأقرب كذلك لعامة الشعب الذي لم يتحلل بعد ولا يجوز له أن يفعل _ من التراث الذي يرى فيه البعض قيداً على الإبداع، وأرى فيه قارب نجاة الأمة إن هي أحسنت التعامل معه وانتقاء العظيم منه والبناء عليه والإبحار به صوب مجاهل الدنيا التي تزداد " في ظل المتغيرات الدولية" إبهاماً وشمولية وتنأى بالأمم_ ومنها أمتنا_ عن خصوصياتها الثقافية والحضارية وهو ما يجب أن نتصدى له بما نمتلك وبما ينبغي لنا أن نمتلك من أدوات إبداعية للنهوض بمشروع حضاري متكامل.
س8: الأمكنة التي تزورها تحضر بقوة في نصوصك الشعرية، ما الذي يفعله المكان بالشعر، ولا يفعله الإنسان؟
ج8: هذه النصوص أولاً من قدسية الجغرافيا وقدرة المكان على التأثير النفسي حينما أتعلق به وأنخرط في تفاصيله ومكوناته الطبيعية المادية والبشرية، أتعامل مع المكان كأنثى آخذها بين ذراعي واحتضنها وأرشفها وأغسلها من غبارها وأتطهر بها من خطيئتي..أخوض بها بحاراً من الدفء والعشق والمتعة والانبهار، وتخوض بي في معالمها ونتوءاتها، وأمرّغ رأسي بأعشاب حقولها وقمح بيادرها، واسترخي بعد رحلة من الضنك على سفوحها المتواطئة مع الأفول الذي تقتضيه دورة العمر الذي يشكل المكان محورها، كل مكان..مثل كل أنثى ..يحمل مفاجآته الخاصة، وعبقه الخاص، وسنديانه العتيق، وله رعاة يقدمون الغناء بلغات شتى وعلى أنغام نايات مجرّحة، لكنها جميعاً تقود الخراف إلى مائها وكلئها وتدخلها في بهجة الصباحات المشرقة، لقد تعاملت مع المكان وكأنه كائن حي، وكل مكان زرته وتعرفت إلى ساكنيه وزواره والغرباء فيه منحني الكثير من المعرفة وجعل من حياتي متحفاً يمور بمقتنياته النادرة، فأثثت بها مملكة تضج بالأحلام، وتولد كل يوم لدي رغبة في البقاء على متن شراعي متوسّلاً الموج والريح أن يأخذاني إلى عالم يدق وتداً جديداً في أركان خيمة المعرفة التي مثل غمامة تظلل حاجبيّ حينما تقسو الحياة وتزدحم شؤونها وصروفها على غير انتظار،لقد نبع إيماني بالمكان من اعتقادي بأن قيمة مجد الكائن تقاس بما تقطع قدماه من مسافات، وبقدر ما ترى عيناه من بلاد، وتمتلئ ذاكرته بالمفردات الإنسانية الفذّة.
س9: ولكن المكان يحتاج إلى ذاكرة سينمائية وأداة تشكيلية؟
ج9: نعم.. هنا تتبدّى أهمية الذاكرة البصرية في محمولها التصويري وقدرتها على تحمل أعباء تحويل الصورة الجامدة إلى حقيقة إبداعية تسعى بين يدي الناس، إن الشاعر في تعامله مع المكان ليس تعاملاً فوتوغرافياً، بل هو إعادة إسالة الدم في شرايين المكان وأوردته، بما يجعل منه كائناً حيّاً تتم مخاطبته ودعوته معك إلى مائدة العشاء وفتح جوار مع " أعضائه " التي تنوء بما حملته من غبار الأزمنة، هنا تكمن المعرفة في إنطاق المكان ليبوح بما استعصى على الفهم العابر، فيكون بذلك شاهداً على من زوّر التاريخ أو صادر جزءاً منه، وتلك هي عبقرية المكان الذي تجد فيه الكائنات ذاكرتها، ونجد فيه نحن المبدعون دهشة نقرؤها ونعيد صياغتها على الشكل الذي يفي بحق المكان، ويبقيه وفيّاً لرسالته وثوابته ومعانيه.
س10: مؤخراً فاجأ الشاعر مقدادي الساحة الثقافية والفنية والأدبية في الأردن بالاشتراك بمعرض فن تشكيلي مشترك مع الشاعرين والتشكيليين حسين نشوان وعبد الله منصور، ما الذي أردت قوله في هذا المعرض، ومن خلال رؤيتي للوحاتك وجدت أنك لا تشكّل ولا ترسم، إنما تكتب نصاً تشكيلياً يعتمد على المتخيل اللوني؟
ج10: محاولة الرسم عندي بدأت مبكرة منذ أول قلم رصاص وضعته بين السبابة والوسطى_ هكذا كنت أمسك قلمي_ وهي بدايات مبكرة على بدايات الشعر والكتابة، اللذين تقدما على الرسم الذي انتحى جانباً معتماً في كهوف النفس إلى أن سافرت إلى أمريكيا لغايات استكمال الدراسات العليا، وأقمت في ولاية " نيومكسيكو" وفي جامعتها حيث تقام معارض الفن التشكيلي أتيحت لي فرصة لقاء فنان من الهنود الحمر الذين يقيمون على مقربة من العاصمة، وقد دعاني " فريدريكو" عدة مرات على بيته الرث، وعلمني تقنية جديدة تقوم عليها مدرسة في الرسم هناك، وهي تستند إلى مزج لوني يتحكم الفنان باتجاهاته ومستويات امتزاجه وتدرج ألوانه وتعدد الملامح الشكلية وتداخلها بما يخدم الفكرة التي قد لا تتشكل إلا في خضم التجربة اللونية الآنية، فهو رسم غير محدد في البداية، ويعتمد على إبداعية الفنان وقدرته على خلق المضمون أثناء تشكل اللوحة، بما يضمن انقيادها وراء الانسيابات اللونية، المهم أنني تعلمت هذه التقنية التي تمتاز بفرادتها وفرديتها، كذلك وقدمت بعض أعمالي للمرة الأولى في المعرض المشترك مع زميليّ الشاعرين، ولأنني اضطررت للسفر فلم أتمكن من متابعة هذا المعرض وما كتب عنه_ إن كان هناك ثمة من كتب_ لكنني استمعت منك الآن عن رأيك في تلك اللوحات التي اعتبرتها نصاً تشكيلياً يعتمد على المتخيّل اللوني، وأتمنى أن تكون كذلك، لأنها حينئذ تكون قد أفصحت عمّا أريد، وهو ما يدفعني إلى مواصلة التجريب في هذا الحقل الإبداعي الذي أرى فيه محاولة لاستكمال نص الحياة وكونشيرتو المستقبل.
س11: سؤالي الأخير سيكون خارج النص، أنت باحث مميز في شؤون العولمة، ولك رأي تنويري في هذا المجال، وأصدرت كتابين في هذا الاتجاه: " العولمة رقاب كثيرة وسيف واحد، وأمريكيا وهيكلة الموت" كيف تنظر للعولمة من الجانب الثقافي؟
ج11: سؤالك ليس خارج النص، بل يقع في صلب الحقيقة الإبداعية، ذلك أنني متخصص_ أكاديمياً_ في الاقتصادات الدولية، لكن الحالة الإبداعية هي التي أخذت بيدي لانجاز ذينك الكتابين، إذ كان الباعث الفعلي وراء الكتاب الأول هو الإحساس بمسؤوليتي ككاتب أولاً إزاء ما يجري في هذا العالم من تعديات على إنسانيته وكرامة شعوبه وحرية أوطانه، ورأيت فيما رأيت أن العولمة المتوحشة، تستخدم أدواتها الفاعلة من تقنيات ووسائل اتصالات ورؤوس أموال ومؤسسات عالمية وقدرات عسكرية في امتهان الشعوب واستعبادها وإعادة العالم إلى مربعات الصراع الأول، بدلاً من الاستخدام الرشيد والإنساني للمنجزات العلمية في عالم بات مفتوحاً على كامل تفاصيله الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقد اعتقد البعض، ممن غرّر بهم الإعلام الذي ينساب في فضاء كوني مفتوح، أن العولمة بشعاراتها الآخذة بالألباب حول حقوق الإنسان والديمقراطية وردم الفجوة الاقتصادية بين الشمال المتخم بقدراته وابتكاراته وجنوب مكتظ بما يستحكم فيه من جهل وفقر وقهر وتعسف، وهي شعارات_ كما ذكرت_ أغرت في البدء شعوب العالم الثالث وبعضاً من مفكريه وساد اعتقاد بأن العالم الأول الذي تسكن " الشعوب المختارة" قد تخلى عن فكره الاستعلائي الاستعماري الذي عهدته شعوبنا في القرون السابقة، وبأنه بات يتجه نحو مشاركة الشعوب البائسة في حلّ معضلة تخلّفها، لكن سحابة التضليل الإعلامي انقشعت وأطل علينا المستعمرون بكامل صلفهم وغرورهم وبطشهم، فاحتلت أفغانستان والعراق، وهددت القوى الممانعة للمشروع الاستعماري بحلته الجديدة وأدواته المدمرة للقيم والمفاهيم والمتجاوزة للخصوصية الثقافية للأمة ولمنجزها الحضاري والإنساني حين دفع مفكرو الغرب بالصراع الحضاري إلى الواجهة وآمنوا بحتمية انتصار النموذج الليبرالي الغربي " اقتصادياً ومعرفياً" على غيره وخصّوا بالذكر هنا النموذج الاشتراكي بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، والنموذج العربي الإسلامي باعتباره نموذجاً قهرياًَ واستبدادياً ومعادياً لكل حركة تقدمية أو فعل مستقبلي، هذا أجّج الصراع وجعل الثقافة ميداناً له بصرف النظر عن محاولات التعتيم والتعمية التي تبتكرها وسائل الإعلام على الجبهتين، جبهة الأمة المجزأة، وجبهة أعداء الأمة المدججين بكل ما قدمته التكنولوجيا لهم من أدوات اعتقدوا بأنها ستحسم معركة الصراع القائم منذ خمسة قرون على الأقل، ولم تنهزم الأمة وإن تراخت الأيدي عن الزناد، وركنت العقول إلى زوايا الجهل والتخلف وأصبح كل حزب فرح بما لديه، لكن الضمير العربي والإنساني لم يقف مستسلماً إزاء ما لحق بمكانة الأمة من مهانة وانكسار،كان الأساس فيها تغييب الشعوب عن حقيقتها التاريخية والسياسية وعدم تمكينها من المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية وحتى اليومية التي تمس حياتها ومستقبل أجيالها، مما أدى إلى انكسار مشروع النهضة والتنوير وتراجع فعل العقل وتعطلت عوامل الاستشعار لتقديم رؤية الأمة الواحدة في صراعها مع الآخر الذي لا يدع فرصة لتعميق التجزئة والتفتت وترسيخ قيم التنائي إلا واستثمرها مستفيداً من هذا الترهل الذي أصاب جسد الأمة، والعشى الذي ألم ببصرها وبصيرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق